الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ***
فمن فروع ذلك. إذا اجتمع حدث وجنابة, كفى الغسل على المذهب, كما لو اجتمع جنابة وحيض, ولو باشر المحرم فيما دون الفرج, لزمته الفدية. فلو جامع دخلت في الكفارة على الأصح, بناء على تداخل الحدث في الجنابة. ولو اجتمع حدث ونجاسة حكمية كفت لهما غسلة واحدة في الأصح, عند النووي. ولو جامع بلا حائل, فعن المسعودي: أنه لا يوجب غير الجنابة واللمس الذي يتضمنه يصير مغمورا به كخروج الخارج الذي يتضمنه الإنزال. والأكثرون قالوا: يحصل الحدثان; لأن اللمس يسبق حقيقة الجماع بخلاف الخروج فإنه مع الإنزال. ولو دخل المسجد وصلى الفرض دخلت فيه التحية. ولو دخل الحرم محرما, بحج فرض أو عمرة. دخل فيه الإحرام لدخول مكة. ولو طاف القادم عن فرض أو نذر, دخل فيه طواف القدوم, بخلاف ما لو طاف للإفاضة لا يدخل فيه طواف الوداع لأن كلا منهما مقصود في نفسه, ومقصودهما مختلف وبخلاف ما لو دخل المسجد الحرام, فوجدهم يصلون جماعة فصلاها, فإنه لا يحصل له تحية البيت, وهو الطواف, لأنه ليس من جنس الصلاة. ولو صلى: عقيب الطواف فريضة, حسبت عن ركعتي الطواف; اعتبارا بتحية المسجد نص عليه في القديم, وليس في الجديد ما يخالفه. وقال النووي: إنه المذهب. ولو تعدد السهو في الصلاة: لم يتعدد السجود بخلاف جبرانات الإحرام, لا تتداخل لأن القصد بسجود السهو رغم أنف الشيطان. وقد حصل بالسجدتين آخر الصلاة. والمقصود بجبرانات الإحرام: جبر هتك الحرمة, فلكل هتك جبر فاختلف المقصود, ولو زنى بكر, أو شرب خمرا, أو سرق مرارا; كفى حد واحد. قال الرافعي: وهل يقال وجب لها حدود, ثم عادت إلى حد واحد, أو لم يجب إلا حد واحد; وجعلت الزنيات كالحركات في زنية واحدة؟ ذكروا فيه احتمالين. ولو زنى أو شرب, فأقيم عليه بعض الحد. فعاد إلى الجريمة, دخل الباقي في الحد الثاني. وكذا لو زنى في مدة التغريب. غرب ثانيا ودخلت فيه بقية المدة. ولو قذفه مرات: كفى حد واحد أيضا في الأصح. ولو زنى وهو بكر, ثم زنى وهو ثيب, فهل يكتفى بالرجم؟ وجهان في أصل الروضة بلا ترجيح. وجه المنع: اختلاف جنسهما, لكن صحح البارزي في التمييز. التداخل. بخلاف ما لو سرق, وزنى, وشرب وارتد. فلا تداخل لاختلاف الجنس. ولو سرق وقتل في المحاربة, فهل يقطع, ثم يقتل, أو يقتصر على القتل والصلب. ويندرج حد السرقة في حد المحاربة؟ وجهان, في الروضة بلا ترجيح. ولو وطئ في نهار رمضان مرتين, لم تلزمه بالثاني كفارة; لأنه لم يصادف صوما. بخلاف ما لو وطئ في الإحرام ثانيا, فإن عليه شاة. ولا تدخل في الكفارة لمصادفته إحراما لم يحل منه. ولو لبس ثوبا مطيبا, فرجح الرافعي لزوم فديتين. وصحح النووي واحدة لاتحاد الفعل وتبعية الطيب. ولو قتل المحرم صيدا في الحرم لزمه جزاء واحد, وتداخلت الحرمتان في حقه لأنهما من جنس واحد, كالقارن إذا قتل صيدا, لزمه جزاء واحد, وإن كان قد هتك به حرمة الحج والعمرة. ولو أحرم المتمتع بالعمرة, فجرح صيدا ثم أحرم بالحج, فجرحه جرحا آخر, ثم مات, فهل يلزمه جزاءان؟.قال الشيخ أبو إسحاق في الملخص: هذه المسألة لا يعرف فيها نقل. فلو كشط جلدة الرأس, فلا فدية, والشعر تابع. قال الرافعي: وشبهوه بما لو أرضعت أم الزوج زوجته. يجب المهر, ولو قتلها لم يجب. ولو تكرر الوطء بشبهة واحدة, تداخل المهر بخلاف ما إذا تعدد جنس الشبهة. ولو وطئ بشبهة بكرا وجب أرش البكارة ولا تداخل لاختلاف الجنس والمقصود فإن أرش البكارة يجب إبلا. والمهر: نقدا, والأرش: للجناية والمهر للاستمتاع. ولو قطع كامل الأصابع يدا ناقصة إصبعا; فإن لقط أصابعه الأربعة, فله حكومة أربعة أخماس الكف ولا يتداخل, لأنها ليست من جنس القصاص وله حكومة خمس الكف أيضا, وإن أخذ دية الأصابع الأربع, فلا حكومة لمنابتها من الكف; لأنها من جنس الدية فدخلت فيها, وله حكومة خمس الكف لاختلاف الجهة. ولو أزال أطرافا ولطائف, ثم مات سراية, أو حز: دخلت في دية النفس. ولو كان أحد الفعلين عمدا والآخر خطأ, فلا تداخل للاختلاف فإن دية العمد مثلثة حالة على الجاني, ودية الخطأ مخمسة مؤجلة على العاقلة. ولو قطع الأجفان وعليها أهداب, دخلت حكومتها في ديتها, وكذا تدخل حكومة الشعر في دية الموضحة, والشارب في دية الشفة. والأظفار والكف في دية الأصابع. والسنخ في دية السن والذكر في دية الحشفة, والثدي في دية الحلمة, على الأصح في الكل. وكذا حكومة قصبة الأنف في دية المارن, على ما قاله الإمام إنه الظاهر وصححه في أصل الروضة. وقال في المهمات: الفتوى على خلافه. ولا يدخل أرش الجرح في دية العقل, ولا الأسنان في اللحيين ولا الموضحة في الأذنين, ولا حكومة جرح الصدر في دية الثدي, ولا العانة في دية الذكر والشفرين لاختلاف محل الجناية فيها. ولو لزمها عدتا شخص من جنس, بأن طلق, ثم وطئ في العدة. تداخلتا. بخلاف ما إذا كانتا لشخصين, بأن وطئ غيره بشبهة, فلا تداخل. ولو كانتا لواحد, واختلف الجنس, بأن كانت الأولى بغير الحمل. والثانية به, فوجهان, أصحهما: التداخل. وقيل: لا لاختلاف الجنس. والوجهان مبنيان على أن التداخل في العدد هل هو سقوط الأولى, والاكتفاء بالثاني أو انضمام الأولى للثاني, فيؤديان بانقضاء مدة واحدة؟, وفيه وجهان, فعلى الأول: يتداخل. وعلى الثاني: لا. وقد علمت ما أوردناه من الفروع. مع احترازنا عنه بقولنا "من جنس واحد" وبقولنا "ولم يختلف مقصودهما" وبقولنا "غالبا".
من فروعه: ما لو أوصى بطبل, وله طبل لهو, وطبل حرب صح, وحمل على الجائز, نص عليه. وألحق به القاضي حسين: ما لو كان له زق خمر, وزق خل, فأوصى بأحدهما صح, وحمل على الخل. ومنها: لو قال لزوجته وحمار: أحدكما طالق, فإنها تطلق, بخلاف ما لو قال ذلك لها, ولأجنبية. وقصد الأجنبية. يقبل في الأصح. لكون الأجنبية من حيث الجملة قابلة. ومنها: لو وقف على أولاده, وليس له إلا أولاد أولاد. حمل عليهم. كما جزم به الرافعي. لتعذر الحقيقة. وصونا للفظ عن الإهمال. ونظيره: ما لو قال: زوجاتي طوالق. وليس له إلا رجعيات طلقن قطعا, وإن كان في دخول الرجعية في ذلك مع الزوجات خلاف. ومنها: قال لزوجته: إن دخلت الدار أنت طالق, بحذف الفاء, فإن الطلاق لا يقع قبل الدخول. صونا للفظ عن الإهمال. وقال محمد بن الحسن, صاحب أبي حنيفة: يقع, لعدم صلاحية اللفظ للجزاء, بسبب عدم الفاء, فحمل على الاستئناف. ونقل الرافعي: عدم الوقوع عن جماعة, ثم نقل عن البوشنجي: أنه يسأل, فإن قال: أردت التنجيز, حكم به. قال الأسنوي: وما قاله البوشنجي لا إشكال فيه, إلا أنه يشعر بوجوب سؤاله. ومنها: قال لزوجته في مصر: أنت طالق في مكة, ففي الرافعي, عن البويطي: أنها تطلق في الحال, وتبعه في الروضة. قال الأسنوي: وسببه: أن المطلقة في بلد مطلقة في باقي البلاد. قال: لكن رأيت في طبقات العبادي, عن البويطي: أنها لا تطلق, حتى تدخل مكة. قال: وهو متجه, فإن حمل الكلام على فائدة أولى من إلغائه. قال: وقد ذكر الرافعي قبل ذلك بقليل, عن إسماعيل البوشنجي مثله, وأقره عليه. ومنها: وقع في فتاوى السبكي: أن رجلا وقف عليه, ثم على أولاده, ثم على أولادهم ونسله, وعقبه, ذكرا وأنثى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} على أن من توفي منهم عن ولد أو نسل, عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده, ثم على ولد ولده, ثم على نسله على الفريضة, وعلى أن من توفي من غير نسل, عاد ما كان جاريا عليه; على من في درجته من أهل الوقف المذكور, يقدم الأقرب إليه فالأقرب, ويستوي الأخ الشقيق والأخ من الأب. ومن مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف, وترك ولدا, أو أسفل منه استحق ما كان يستحقه المتوفى, لو بقي حيا إلى أن يصير إليه شيء من منافع الوقف المذكور, وقام في الاستحقاق مقام المتوفى, فإذا انقرضوا, فعلى الفقراء. وتوفي الموقوف عليه وانتقل الوقف. إلى ولديه: أحمد, وعبد القادر, ثم توفي عبد القادر, وترك ثلاثة أولاد, هم علي, وعمر ولطيفة, وولدي ابنه محمد, المتوفى في حياة والده. وهما: عبد الرحمن, وملكة. ثم توفي عمر عن غير نسل, ثم توفيت لطيفة, وتركت بنتا. تسمى فاطمة, ثم توفي علي وترك بنتا تسمى: زينب, ثم توفيت فاطمة بنت لطيفة من غير نسل, فإلى من ينتقل نصيب فاطمة المذكورة؟ فأجاب: الذي يظهر لي الآن أن نصيب عبد القادر جميعه, يقسم هذا الوقف على ستين جزءا لعبد الرحمن منه: اثنان وعشرون; ولملكة: أحد عشر ولزينب: سبعة وعشرون, ولا يستمر هذا الحكم في أعقابهما, بل كل وقت بحسبه. قال: وبيان ذلك: أن عبد القادر لما توفي انتقل نصيبه إلى أولاده الثلاثة وهم: عمر وعلي ولطيفة. {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}: لعلي: خمساه, ولعمر: خمساه, وللطيفة خمسه, هذا هو الظاهر عندنا. ويحتمل أن يقال: يشاركهم عبد الرحمن, وملكة "ولدا محمد المتوفى في حياة أبيه, ونزلا منزلة أبيهما" فيكون لهما: السبعان. ولعلي: السبعان. ولعمر السبعان, وللطيفة سبع. وهذا وإن كان محتملا, فهو مرجوح عندنا; لأن الممكن في مأخذه ثلاثة أمور: أحدها: أن مقصود الواقف: أن لا يحرم أحد من ذريته, وهذا ضعيف لأن المقاصد إذا لم يدل عليها اللفظ, لا يعتبر. الثاني: إدخالهم في الحكم, وجعل الترتيب بين كل أصل وفرعه, لا بين الطبقتين جميعا. وهذا محتمل, لكنه خلاف الظاهر. وقد كنت ملت إليه مرة في وقف, للفظ اقتضاه فيه, لست أعمه في كل ترتيب. الثالث: الاستناد إلى قول الواقف "إن مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء, قام ولده مقامه" وهذا أقوى. لكنه إنما يتم لو صدق على المتوفى في حياة والده: أنه من أهل الوقف. وهذه مسألة كان قد وقع مثلها في الشام قبل التسعين وستمائة, وطلبوا فيها نقلا. فلم يجدوه, فأرسلوا إلى الديار المصرية يسألون عنها. ولا أدري ما أجابوهم. لكني رأيت بعد ذلك في كلام الأصحاب: فيما إذا وقف على أولاده. على أن من مات منهم انتقل نصيبه إلى أولاده. ومن مات, ولا ولد له, انتقل إلى الباقين من أهل الوقف, فمات واحد عن ولد انتقل نصيبه إليه, فإذا مات آخر عن غير ولد انتقل نصيبه إلى أخيه, وابن أخيه; لأنه صار من أهل الوقف. فهذا التعليل يقتضي: أنه إنما صار من أهل الوقف بعد موت والده فيقتضي أن ابن عبد القادر, المتوفى في حياة والده, ليس من أهل الوقف, وأنه إنما يصدق عليه اسم أهل الوقف, إذا آل إليه الاستحقاق. قال: ومما يتنبه له أن بين" أهل الوقف" و "الموقوف عليه" عموما وخصوصا من وجه, فإذا وقف مثلا على زيد, ثم عمرو, ثم أولاده, فعمرو موقوف عليه في حياة زيد لأنه معين قصده الواقف بخصوصه. وسماه وعينه. وليس من أهل الوقف, حتى يوجد شرط استحقاقه, وهو موت زيد. وأولاده إذا آل إليهم الاستحقاق: كل واحد منهم من أهل الوقف, ولا يقال في كل واحد منهم: إنه موقوف عليه بخصوصه لأنه لم يعينه الواقف, وإنما الموقوف عليه: جهة الأولاد, كالفقراء. قال: فتبين بذلك أن ابن عبد القادر, والد عبد الرحمن, لم يكن من أهل الوقف أصلا; ولا موقوفا عليه, لأن الواقف لم ينص على اسمه. قال: وقد يقال: إن المتوفى في حياة أبيه يستحق أنه لو مات أبوه جرى عليه الوقف فينتقل هذا الاستحقاق إلى أولاده. قال: وهذا قد كنت في وقت أبحته, ثم رجعت عنه. فإن قلت: قد قال الواقف "إن من مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء" فقد سماه من أهل الوقف, مع عدم استحقاقه, فيدل على أنه أطلق "أهل الوقف" على من لم يصل إليه الوقف, فيدخل محمد والد عبد الرحمن, وملكة في ذلك, فيستحقان. ونحن إنما نرجع في الأوقاف إلى ما يدل عليه لفظ واقفها, سواء وافق ذلك عرف الفقهاء أم لا. قلت: لا نسلم مخالفة ذلك لما قلناه. أما أولا فلأنه لم يقل "قبل استحقاقه" وإنما قال قبل استحقاقه لشيء, فيجوز أن يكون قد استحق شيئا صار به من أهل الوقف, ويترقب استحقاقا من آخر فيموت قبله, فنص الواقف على أن ولده يقوم مقامه في ذلك الشيء الذي لم يصل إليه. ولو سلمنا أنه قال: "قبل استحقاقه" فيحتمل أن يقال: إن الموقوف عليه, أو البطن الذي بعده, وإن وصل إليه الاستحقاق. أعني أنه صار من أهل الوقف: قد يتأخر استحقاقه, إما لأنه مشروط بمدة: كقوله: في كل سنة كذا, فيموت في أثنائها أو ما أشبه ذلك فيصح أن يقال: إن هذا من أهل الوقف, وإلى الآن ما استحق من الغلة شيئا. إما لعدمها, أو لعدم شرط الاستحقاق, بمضي زمان, أو غيره, فهذا حكم الوقف بعد موت عبد القادر. فلما توفي عمر عن غير نسل انتقل نصيبه إلى أخويه, عملا بشرط الواقف لمن في درجته فيصير نصيب عبد القادر كله بينهما أثلاثا لعلي: الثلثان, وللطيفة:الثلث ويستمر حرمان عبد الرحمن وملكة. فلما ماتت لطيفة انتقل نصيبها, وهو: الثلث إلى بنتها. ولم ينتقل لعبد الرحمن, وملكة شيء, لوجود أولاد عبد القادر, وهم يحجبونهم; لأنهم أولاده. وقد قدمهم على أولاد الأولاد, الذين هم منهم. فلما توفي علي بن عبد القادر. وخلف بنته زينب. احتمل أن يقال: نصيبه كله, وهو: ثلثا نصيب عبد القادر لها. عملا بقول الواقف: "من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه لولده". وتبقى هي وبنت عمتها مستوعبتين لنصيب جدهما. لزينب: ثلثاه. ولفاطمة.ثلثه. واحتمل أن يقال: إن نصيب عبد القادر كله يقسم الآن على أولاده, عملا بقول الواقف: "ثم على أولاده ثم على أولاد أولاده" فقد أثبت لجميع أولاد الأولاد استحقاقا بعد الأولاد. وإنما حجبنا عبد الرحمن وملكة, وهما من أولاد الأولاد: بالأولاد, فإذا انقرض الأولاد زال الحجب, فيستحقان. ويقسم نصيب عبد القادر بين جميع أولاد أولاده, فلا يحصل لزينب جميع نصيب أبيها. وينقص ما كان بيد فاطمة, بنت لطيفة وهذا أمر اقتضاه النزول الحادث بانقراض طبقة الأولاد "المستفاد من شرط الواقف: أن أولاد الأولاد بعدهم. ولا شك أن فيه مخالفة لظاهر قوله "إن من مات فنصيبه لولده" فإن ظاهره يقتضي أن نصيب علي لبنته زينب. واستمرار نصيب لطيفة لبنتها فاطمة, فخالفناه بهذا العمل فيهما جميعا, ولو لم نخالف ذلك, لزمنا مخالفة قول الواقف: "إن بعد الأولاد يكون لأولاد الأولاد", وظاهره يشمل الجميع. فهذان الظاهران تعارضا, وهو تعارض قوي صعب. ليس في هذا الوقف محز أصعب منه. وليس الترجيح فيه بالهين بل هو محل نظر الفقيه. وخطر لي فيه طرق: منها: أن الشرط المقتضي لاستحقاق أولاد الأولاد جميعهم متقدم في كلام الواقف, والشرط المقتضي لإخراجهم بقوله "من مات انتقل نصيبه لولده" متأخر, فالعمل بالمتقدم أولى; لأن هذا ليس من باب النسخ, حتى يقال: العمل بالمتأخر أولى. ومنها; أن ترتيب الطبقات أصل, وذكر انتقال نصيب الوالد إلى ولده فرع وتفصيل لذلك الأصل, فكان التمسك بالأصل أولى. ومنها: أن "من" صيغة عامة, فقوله "من مات وله ولد" صالح لكل فرد منهم, ولمجموعهم, وإذا أريد مجموعهم, كان انتقال نصيب مجموعهم إلى مجموع الأولاد من مقتضيات هذا الشرط, فكان إعمالا له من وجه, مع إعمال الأول, وإن لم نعمل بذلك كان إلغاء للأول من كل وجه وهو مرجوح. ومنها: إذا تعارض الأمر بين إعطاء بعض الذرية وحرمانهم, تعارضا لا ترجيح فيه فالإعطاء أولى; لأنه لا شك أقرب إلى غرض الواقفين. ومنها: أن استحقاق زينب لأقل الأمرين وهو الذي يخصها إذا شرك بينها وبين بقية أولاد الأولاد: محقق. وكذا فاطمة, والزائد على المحقق في حقها: مشكوك فيه, ومشكوك في استحقاق عبد الرحمن, وملكة له, فإذا لم يحصل ترجيح في التعارض بين اللفظين, يقسم بينهم, فيقسم بين عبد الرحمن, وملكة, وزينب. وفاطمة. وهل يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين, فيكون لعبد الرحمن: خمساه. ولكل من الإناث: خمسه, نظرا إليهم, دون أصولهم, أو ينظر إلى أصولهم, فينزلون منزلتهم لو كانوا موجودين, فيكون لفاطمة: خمسه, ولزينب: خمساه, ولعبد الرحمن وملكة خمساه؟ فيه احتمال. وأنا إلى الثاني أميل. حتى لا يفضل فخذ على فخذ في المقدار, بعد ثبوت الاستحقاق. فلما توفيت فاطمة من غير نسل, والباقون من أهل الوقف: زينب بنت خالها, وعبد الرحمن وملكة, ولدا عمها, وكلهم في درجتها. وجب قسم نصيبها بينهم, لعبد الرحمن: نصفه, ولملكة: ربعه, ولزينب: ربعه. ولا نقول هنا: ننظر إلى أصولهم; لأن الانتقال من مساويهم, ومن هو في درجتهم فكان اعتبارهم بأنفسهم أولى. فاجتمع لعبد الرحمن, وملكة: الخمسان, حصلا لهما بموت علي. ونصف وربع الخمس, الذي لفاطمة, بينهما بالفريضة, فلعبد الرحمن خمس, ونصف خمس, وثلث خمس. ولملكة: ثلثا خمس وربع خمس. واجتمع لزينب: الخمسان بموت والدها, وربع خمس فاطمة, فاحتجنا إلى عدد يكون له خمس. ولخمسه ثلث وربع. وهو ستون, فقسمنا نصيب عبد القادر عليه. لزينب خمساه وربع خمسه. وهو سبعة وعشرون ولعبد الرحمن: اثنان وعشرون. وهي خمس ونصف خمس وثلث خمس. ولملكة: إحدى عشر وهي ثلثا خمس وربع خمس. فهذا ما ظهر لي, ولا أشتهي أحدا من الفقهاء يقلدني. بل ينظر لنفسه, انتهى كلام السبكي. قلت: الذي يظهر لي اختياره أولا, دخول عبد الرحمن وملكة, بعد موت عبد القادر عملا بقوله: "ومن مات من أهل الوقف إلخ". وما ذكره السبكي: من أنه لا يطلق عليه أنه من أهل الوقف: ممنوع. وما ذكره في تأويل قوله: "قبل استحقاقه" خلاف الظاهر من اللفظ. وخلاف المتبادر إلى الأفهام. بل صريح كلام الواقف: أنه أراد بأهل الوقف: الذي مات قبل استحقاقه, لا الذي لم يدخل في الاستحقاق بالكلية. ولكنه بصدد أن يصل إليه. وقوله: "لشيء من منافع الوقف" دليل قوي لذلك, فإنه نكرة في سياق الشرط. وفي سياق كلام معناه النفي, فيعم; لأن المعنى لم يستحق شيئا من منافع الوقف. وهذا صريح في رد التأويل الذي قاله. ويؤيده أيضا, قوله: "استحق ما كان يستحقه المتوفى, لو بقي حيا إلى أن يصير إليه شيء من منافع الوقف" فهذه الألفاظ كلها صريحة في أنه مات قبل الاستحقاق. وأيضا: لو كان المراد ما قاله السبكي, لاستغني عنه بقوله أولا "على أن من مات عن ولد عاد ما كان جاريا عليه على ولده "فإنه يغني عنه ولا ينافي هذا اشتراطه الترتيب في الطبقات بثم; لأن ذاك عام, خصصه هذا. كما خصصه أيضا قوله: "على أن من مات عن ولد" إلى آخره. وأيضا: فإنا إذا عملنا بعموم اشتراط الترتيب لزم منه إلغاء هذا الكلام بالكلية. وأن لا يعمل في صورة; لأنه على هذا التقدير: إنما استحق عبد الرحمن وملكة لما استووا في الدرجة, أخذا من قوله: "عاد على من في درجته" فبقي قوله: "ومن مات قبل استحقاقه إلخ" مهملا لا يظهر أثره في صورة. بخلاف ما إذا أعملناه, وخصصنا به عموم الترتيب, فإن فيه إعمالا للكلامين, وجمعا بينهما وهذا أمر ينبغي أن يقطع به. وحينئذ, فنقول: لما مات عبد القادر قسم نصيبه بين أولاده الثلاثة, وولدي ولده أسباعا: لعبد الرحمن وملكة: السبعان أثلاثا, فلما مات عمر, عن غير نسل, انتقل نصيبه إلى أخويه وولدي أخيه, فيصير نصيب عبد القادر كلهم بينهم. لعلي: خمسان وللطيفة:خمس, ولعبد الرحمن, وملكة خمسان, أثلاثا. ولما توفيت لطيفة انتقل نصيبها بكماله لبنتها فاطمة ولما مات علي انتقل نصيبه بكماله لبنته زينب ولما توفيت فاطمة بنت لطيفة والباقون في درجتها زينب وعبد الرحمن وملكة. قسم نصيبها بينهم: "للذكر مثل حظ الأنثيين" اعتبارا بهم, لا بأصولهم. لما ذكر السبكي: لعبد الرحمن: نصف ولكل بنت ربع, فاجتمع لعبد الرحمن بموت عمر: خمس وثلث, وبموت فاطمة: نصف خمس. ولملكة, بموت عمر: ثلثا خمس, وبموت فاطمة: ربع خمس. ولزينب بموت علي: خمسان, وبموت فاطمة: ربع خمس, فيقسم نصيب عبد القادر ستين جزءا. لزينب: سبعة وعشرون, وهي خمسان وربع خمس, ولعبد الرحمن: اثنان وعشرون, وهي خمس ونصف وثلث. ولملكة: أحد عشر, وهي ثلثا خمس وربع. فصحت مما قاله السبكي, لكن الفرق تقدم استحقاق عبد الرحمن, وملكة. والجزم حينئذ بصحة هذه القسمة, والسبكي تردد فيها, وجعلها من باب قسمة المشكوك في استحقاقه ونحن لا نتردد في ذلك. وسئل السبكي أيضا: عن رجل وقف على حمزة, ثم أولاده, ثم أولادهم وشرط أن من مات من أولاده انتقل نصيبه للمستحقين من إخوته ومن مات قبل استحقاقه. لشيء من منافع الوقف, وله ولد, استحق ولده ما كان يستحقه المتوفى, لو كان حيا. فمات حمزة, وخلف ولدين, وهما عماد الدين, وخديجة. وولد ولد, مات أبوه في حياة والده, وهو: نجم الدين بن مؤيد الدين بن حمزة, فأخذ الوالدان نصيبهما, وولد الولد: النصيب الذي لو كان أبوه حيا لأخذه, ثم ماتت خديجة, فهل يختص أخوها بالباقي, أو يشاركه ولد أخيه نجم الدين؟. فأجاب: تعارض فيه اللفظان, فيحتمل المشاركة. ولكن الأرجح اختصاص الأخ ويرجحه: أن التنصيص على الإخوة وعلى المستحقين منهم: كالخاص. وقوله: "ومن مات قبل الاستحقاق" كالعام فيقدم الخاص على العام. تنبيه: قال السبكي, وولده: محل هذه القاعدة: أن يستوي الإعمال والإهمال بالنسبة إلى الكلام. أما إذا بعد الإعمال عن اللفظ, وصار بالنسبة إليه كاللغز فلا يصير راجحا ومن ثم: لو أوصى بعود من عيدانه: وله عيدان لهو, وعيدان قسي, وبناء. فالأصح بطلان الوصية, تنزيلا على عيدان اللهو; لأن اسم العود عند الإطلاق له. واستعماله في غيره مرجوح وليس كالطبل لوقوعه على الجميع وقوعا واحدا. كذا فرق الأصحاب بين المسألتين. ولو قال: زوجتك فاطمة, ولم يقل: بنتي: لم يصح على الأصح. لكثرة الفواطم.
يدخل في هذه القاعدة: قاعدة "التأسيس أولى من التأكيد". فإذا دار اللفظ بينهما; تعين على التأسيس. وفيه فروع: منها: قال: أنت طالق. أنت طالق, ولم ينو شيئا, فالأصح الحمل على الاستئناف. ومنها: إذا قال لزوجته: إن ظاهرت من فلانة الأجنبية, فأنت علي كظهر أمي, ثم تزوج تلك, وظاهر. فهل يصير مظاهرا من الزوجة الأولى؟ وجهان: أصحهما في التنبيه: لا. حملا للصفة على الشرط. فكأنه علق ظهاره على ظهاره من تلك, حال كونها أجنبية, وذلك تعليق على ما لا يكون ظهارا شرعيا. والثاني: نعم. ويجعل الوصف بقوله "الأجنبية", توضيحا, لا تخصيصا; وهذا هو الأصح عند النووي.
هو حديث صحيح. أخرجه الشافعي, وأحمد, وأبو داود, والترمذي, والنسائي وابن ماجه, وابن حبان. من حديث عائشة. وفي بعض طرقه ذكر السبب. وهو أن رجلا ابتاع عبدا, فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم, ثم وجد به عيبا, فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فرده عليه, فقال الرجل: يا رسول الله, قد استعمل غلامي. فقال: "الخراج بالضمان". قال أبو عبيد: الخراج في هذا الحديث غلة العبد يشتريه الرجل فيستغله زمانا, ثم يعثر منه على عيب دلسه البائع, فيرده, ويأخذ جميع الثمن. ويفوز بغلته كلها; لأنه كان في ضمانه, ولو هلك هلك من ماله, انتهى. وكذا قال الفقهاء: معناه ما خرج من الشيء: من غلة, ومنفعة, وعين, فهو للمشتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك, فإنه لو تلف المبيع كان من ضمانه, فالغلة له, ليكون الغنم في مقابلة الغرم. وقد ذكروا هنا سؤالين: أحدهما: لو كان الخراج في مقابلة الضمان; لكانت الزوائد قبل القبض للبائع, ثم العقد, أو انفسخ, لكونه من ضمانه, ولا قائل به. وأجيب: بأن الخراج معلل قبل القبض بالملك وبعده به, وبالضمان معا: واقتصر في الحديث على التعليل بالضمان; لأنه أظهر عند البائع, وأقطع لطلبه, واستبعاده أن الخراج للمشتري. الثاني: لو كانت العلة: الضمان, لزم أن يكون الزوائد للغاصب, لأن ضمانه أشد من ضمان غيره. وبهذا احتج لأبي حنيفة في قوله: "إن الغاصب لا يضمن منافع المغصوب". وأجيب: بأنه صلى الله عليه وسلم قضى بذلك في ضمان الملك, وجعل الخراج لمن هو مالكه, إذا تلف تلف على ملكه, وهو المشتري, والغاصب لا يملك المغصوب. وبأن الخراج: هو المنافع, جعلها لمن عليه الضمان. ولا خلاف أن الغاصب لا يملك المغصوب بل إذا أتلفها, فالخلاف في ضمانها عليه, فلا يتناول موضع الخلاف. نعم: خرج عن هذا مسألة, وهي ما لو أعتقت المرأة عبدا, فإن ولاءه يكون لابنها ولو جنى جناية خطأ, فالعقل على عصبتها, دونه, وقد يجيء مثله في بعض العصبات, يعقل ولا يرث.
فروعها كثيرة جدا لا تكاد تحصى: فمنها: استحباب الدلك في الطهارة, واستيعاب الرأس بالمسح, وغسل المني بالماء, والترتيب في قضاء الصلوات, وترك صلاة الأداء خلف القضاء, وعكسه, والقصر في سفر يبلغ ثلاث مراحل, وتركه فيما دون ذلك, وللملاح الذي يسافر بأهله وأولاده, وترك الجمع. وكتابة العبد القوي الكسوب, ونية الإمامة. واجتناب استقبال القبلة واستدبارها مع الساتر, وقطع المتيمم الصلاة إذا رأى الماء; خروجا من خلاف من أوجب الجميع. وكراهة الحيل في باب الربا. ونكاح المحلل خروجا من خلاف من حرمه. وكراهة صلاة المنفرد خلف الصف, خروجا من خلاف من أبطلها. وكذا كراهة مفارقة الإمام بلا عذر, والاقتداء في خلال الصلاة; خروجا من خلاف من لم يجز ذلك.
تنبيه: لمراعاة الخلاف شروط: أحدها: أن لا يوقع مراعاته في خلاف آخر, ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من وصله, ولم يراع خلاف أبي حنيفة لأن من العلماء من لا يجيز الوصل. الثاني: أن لا يخالف سنة ثابتة; ومن ثم سن رفع اليدين في الصلاة, ولم يبال برأي من قال بإبطاله الصلاة من الحنفية; لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية نحو خمسين صحابيا. الثالث: أن يقوى مدركه; بحيث لا يعد هفوة. ومن ثم كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه; ولم يبال بقول داود: إنه لا يصح. وقد قال إمام الحرمين في هذه المسألة: إن المحققين لا يقيمون لخلاف أهل الظاهر وزنا.
تنبيه: شكك بعض المحققين على قولنا بأفضلية الخروج من الخلاف فقال: الأولوية والأفضلية, إنما تكون حيث سنة ثابتة. وإذا اختلفت الأمة على قولين: قول بالحل; وقول بالتحريم, واحتاط المستبرئ لدينه, وجرى على الترك; حذرا من ورطات الحرمة لا يكون فعله ذلك سنة; لأن القول بأن هذا الفعل يتعلق به الثواب من غير عقاب على الترك, لم يقل به أحد, والأئمة كما ترى بين قائل بالإباحة, وقائل بالتحريم. فمن أين الأفضلية؟ وأجاب ابن السبكي: بأن أفضليته ليست لثبوت سنة خاصة فيه, بل لعموم الاحتياط والاستبراء للدين, وهو مطلوب شرعا مطلقا, فكان القول بأن الخروج من الخلاف أفضل, ثابتا من حيث العموم, واعتماده من الورع المطلوب شرعا.
خاتمة: من فروع هذه القاعدة, في العربية: إذا دار الأمر في ضرورة الشعر, أو التناسب, بين قصر الممدود ومد المقصور. فالأول أولى; لأنه متفق على جوازه, والثاني مختلف فيه.
ولهذا: الماء المستعمل, إذا بلغ قلتين, في عوده طهورا, وجهان. ولو استعمل القلتين ابتداء لم يصر مستعملا, بلا خلاف. والفرق أن الكثرة في الابتداء دافعة, وفي الأثناء رافعة. والدفع أقوى من الرفع. ومن ذلك: للزوج منع زوجته من حج الفرض, ولو شرعت فيه بغير إذنه, ففي جواز تحليلها قولان. ووجود الماء قبل الصلاة للمتيمم, يمنع الدخول فيها, وفي أثنائها لا يبطلها, حيث تسقط به. واختلاف الدين المانع من النكاح يدفعه ابتداء, ولا يرفعه في الأثناء, بل يوقف على انقضاء العدة. والفسق: يمنع انعقاد الإمامة ابتداء, ولو عرض في الأثناء, لم ينعزل.
ومن ثم لا يستبيح العاصي بسفره شيئا من رخص السفر: من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثا, والتنقل على الراحلة, وترك الجمعة, وأكل الميتة; وكذا التيمم, على وجه اختاره السبكي, ويأثم بترك الصلاة إثم تارك لها, مع إمكان الطهارة; لأنه قادر على استباحة التيمم بالتوبة. والصحيح أنه يلزمه التيمم لحرمة الوقت, ويلزمه الإعادة لتقصيره بترك التوبة. ولو وجد العاصي بسفره ماء, واحتاج إليه للعطش, لم يجز له التيمم بلا خلاف. وكذا من به مرض وهو عاص بسفره; لأنه قادر على التوبة. قال القفال في شرح التلخيص; فإن قيل: كيف حرمتم أكل الميتة على العاصي بسفره مع أنه مباح للحاضر في حال الضرورة, وكذا من به مرض يجوز له التيمم في الحضر؟ فالجواب: أن ذلك وإن كان مباحا في الحضر عند الضرورة لكن سفره سبب لهذه الضرورة, وهو معصية, فحرمت عليه الميتة في الضرورة, كما لو سافر لقطع الطريق فجرح لا يجوز له التيمم لذلك الجرح, مع أن الحاضر الجريح يجوز له. فإن قيل: تحريم الميتة والتيمم يؤدي إلى الهلاك؟.فالجواب: أنه قادر على استباحته بالتوبة, انتهى. وهل يجوز للعاصي بسفره: مسح المقيم؟ وجهان: أصحهما: نعم لأن ذلك جائز بلا سفر. والثاني: لا, تغليظا عليه, كأكل الميتة. وحكي الوجهان في العاصي بالإقامة كعبد أمره سيده بالسفر, فأقام. قال في شرح المهذب: والمشهور: القطع بالجواز. وطرد الإصطخري القاعدة في سائر الرخص, فقال: إن العاصي بالإقامة لا يستبيح شيئا منها. وفرق الأكثرون بأن الإقامة نفسها ليست معصية; لأنها كف, وإنما الفعل الذي يوقعه في الإقامة معصية. والسفر في نفسه معصية. ومن فروع القاعدة: لو استنجى بمحترم أو مطعوم, لا يجزئه في الأصح; لأن الاقتصار على الحجر رخصة فلا يناط بمعصية. ومنها: لو استنجى بذهب أو فضة, ففي وجه لا يجزيه; لأنه رخصة واستعمال النقد حرام, والصحيح الإجزاء. ومنها: لو لبس خفا مغصوبا. ففي وجه لا يمسح عليه; لأنه رخصة لمشقة النزع, وهذا عاص بالترك واستدامة اللبس, والصحيح الجواز كالتيمم بتراب مغصوب, فإنه يجوز, مع أن التيمم رخصة. قال البلقيني: ونظيره المسح على خف مغصوب: غسل الرجل المغصوبة في الوضوء. وصورته: أن يجب عليه التمكين من قطعها في قصاص أو سرقة, فلا يمكن من ذلك ولو لبس خفا من ذهب أو فضة, ففيه الوجهان في المغصوب. وقطع المتولي هنا بالمنع, لأن التحريم هنا لمعنى في نفس الخف, فصار كالذي لا يمكن متابعة المشي عليه. قال في شرح المهذب: وينبغي أن يكون الحرير مثله. ولو لبس المحرم الخف, فلا نقل فيه عندنا, والمصحح عند المالكية: أنه ليس له المسح وهو ظاهر, فإن المعصية هنا في نفس اللبس, ثم رأيت الأسنوي ذكر المسألة في ألغازه وقال: إن المتجه المنع جزما, ولا يتخرج على الخلاف في المغصوب ونحوه; فإن المنع هناك بطريق العرض, لا لمعنى في اللبس, ولهذا يلبس غيره, ويمسح عليه. وأما المحرم: فقام به معنى آخر, أخرجه عن أهلية المسح لامتناع اللبس مطلقا. ومنها: لو جن المرتد, وجب عليه قضاء صلوات أيام الجنون أيضا, بخلاف ما إذا حاضت المرتدة لا تقضي صلوات أيام الحيض; لأن سقوط القضاء عن الحائض عزيمة وعن المجنون رخصة, والمرتد ليس من أهل الرخصة. ومنها: لو شربت دواء فأسقطت, ففي وجه تقضي صلوات أيام النفاس; لأنها عاصية, والأصح: لا, لأن سقوط القضاء عن النفساء عزيمة لا رخصة. ومنها: لو ألقى نفسه, فانكسرت رجله وصلى قاعدا, ففي وجه: يجب القضاء لعصيانه, والأصح: لا. ومنها: يجوز تقديم الكفارة على الحنث رخصة, فلو كان الحنث بمعصية فوجهان; لأن الرخص لا تناط بالمعاصي. ومنها: لو صب الماء بعد الوقت لغير غرض وتيمم, ففي وجه: تجب الإعادة لعصيانه والأصح: لا; لأنه فاقد. ومنها: إذا حكمنا بنجاسة جلد الآدمي بالموت; ففي وجه: لا يطهر بالدباغ, لأن استعماله معصية, والرخص لا تناط بالمعاصي, والأصح: أنه يطهر كغيره وتحريمه ليس لعينه, بل للامتهان على أي وجه كان; ولأنه يحرم استعماله, وإن قلنا بطهارته. تنبيه: معنى قولنا: "الرخص: لا تناط بالمعاصي" أن فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء, نظر في ذلك الشيء, فإن كان تعاطيه في نفسه حراما, امتنع معه فعل الرخصة, وإلا فلا, وبهذا يظهر الفرق بين المعصية بالسفر والمعصية فيه. فالعبد الآبق, والناشزة, والمسافر للمكس, ونحوه. عاص بالسفر: فالسفر نفسه معصية والرخصة منوطة به مع دوامه, ومعلقة, ومترتبة عليه ترتب المسبب على السبب, فلا يباح. ومن سافر مباحا, فشرب الخمر في سفره, فهو عاص فيه, أي مرتكب المعصية في السفر المباح; فنفس السفر: ليس معصية, ولا آثما به فتباح فيه الرخص; لأنها منوطة بالسفر, وهو في نفسه مباح. ولهذا جاز المسح على, الخف المغصوب, بخلاف المحرم; لأن الرخصة منوطة باللبس, وهو للمحرم معصية; وفي المغصوب ليس معصية لذاته, أي لكونه لبسا, بل للاستيلاء على حق الغير, ولذا لو ترك اللبس, لم تزل المعصية, بخلاف المحرم.
ذكرها الشيخ تقي الدين السبكي وفرع عليها: أنه إذا غسل إحدى رجليه وأدخلها, لا يستبيح; لأنه لم يدخلهما طاهرتين. ومن فروعها: وجوب الغسل: لمن شك في جواز المسح. ووجوب الإتمام لمن شك في جواز القصر, وذلك في صور متعددة.
وقريب منها القاعدة "المتولد من مأذون فيه لا أثر له" ومن فروعها: رضي أحد الزوجين بعيب صاحبه; فزاد: فلا خيار له على الصحيح. ومنها: أذن المرتهن للراهن في ضرب العبد المرهون, فهلك في الضرب. فلا ضمان لأنه تولد من مأذون فيه, كما لو أذن في الوطء فأحبل. ومنها: قال مالك أمره: اقطع يدي, ففعل, فسرى, فهدر, على الأظهر, ومنها: لو قطع قصاصا, أو حدا, فسرى: فلا ضمان, ومنها: تطيب قبل الإحرام, فسرى إلى موضع آخر بعد الإحرام فلا فدية فيه. ومنها: محل الاستجمار معفو عنه, فلو عرق فتلوث منه. فالأصح العفو. ومنها: لو سبق ماء المضمضة, أو الاستنشاق إلى جوفه, ولم يبالغ. لم يفطر في الأصح بخلاف ما إذا بالغ, لأنه تولد من منهي عنه, ويستثنى من القاعدة: ما كان مشروطا بسلامة العاقبة, كضرب المعلم, والزوج, والولي, وتعزير الحاكم وإخراج الجناح, ونحو ذلك.
فلو قيل له على وجه الاستخبار: أطلقت زوجتك؟ فقال: نعم كان إقرارا به, يؤاخذ به في الظاهر. ولو كان كاذبا. ولو قيل ذلك على وجه التماس الإنشاء, فاقتصر على قوله: نعم, فقولان: أحدهما: أنه كناية لا يقع إلا بالنية.
والثاني وهو الأصح صريح; لأن السؤال معاد في الجواب, فكأنه قال: طلقتها وحينئذ: لا يقدح كونه صريحا في حصرهم ألفاظ الصريح في الطلاق, والفراق, والسراح, ولو قالت: أبني بألف, فقال: أبنتك ونوى الزوج الطلاق دونها, فوجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق; لأن كلامه جواب على سؤالها, فكأن السؤال معاد في الجواب, وهي لم يوجد منها القبول لعدم نية الفراق, وهو إنما رضي بعوض. وهذا ما صححه الإمام. والثاني: أنه يقع رجعيا. ويحمل ذلك على ابتداء خطاب منه; لأنه مستقل بنفسه, ورجحه البغوي. ومن فروع القاعدة: مسائل الإقرار كلها. إذا قال: لي عندك كذا; فقال: نعم, أو ليس عليك كذا, فقال أجل في الصورتين, فهو إقرار بما سأله عنه. ولو قال: لي عليك مائة, فقال: إلا درهما, ففي كونه مقرا بما عدا المستثنى وجهان أصحهما: المنع; لأن الإقرار لا يثبت بالمفهوم.
هذه عبارة الشافعي رضي الله عنه ولهذا لو سكت عن وطء أمته لا يسقط المهر قطعا, أو عن قطع عضو منه, أو إتلاف شيء من ماله مع القدرة على الدفع لم يسقط ضمانه, بلا خلاف, بخلاف ما لو أذن في ذلك. ولو سكتت الثيب عند الاستئذان في النكاح. لم يقم مقام الإذن قطعا. ولو علم البائع بوطء المشتري الجارية في مقدار مدة الخيار. لا يكون إجازة في الأصح. ولو حمل من مجلس الخيار, ولم يمنع من الكلام. لم يبطل خياره في الأصح. وخرج عن القاعدة صور: منها: البكر سكوتها في النكاح إذن للأب والجد قطعا, ولسائر العصبة والحاكم في الأصح. ومنها سكوت المدعى عليه عن الجواب, بعد عرض اليمين عليه, يجعله كالمنكر الناكل. وترد اليمين على المدعي. ومنها: لو نقض بعض أهل الذمة. ولم ينكر الباقون بقول, ولا فعل, بل سكتوا انتقض فيهم أيضا. ومنها: لو رأى السيد عبده يتلف مالا لغيره, وسكت عنه ضمنه. ومنها: إذا سكت المحرم, وقد حلقه الحلال مع القدرة على منعه لزمه الفدية على الأصح. ومنها: لو باع العبد البالغ, وهو ساكت. صح البيع, ولا يشترط أن يعترف بأن البائع سيده في الأصح. ومنها: القراءة على الشيخ وهو ساكت ينزل منزلة نطقه في الأصح. ومنها: مسائل أخر. ذكرها القاضي جلال الدين البلقيني, أكثرها على ضعيف, وبعضها اقترن به فعل قام مقام النطق, وبعضها فيه نظر.
أصله قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أجرك على قدر نصبك" رواه مسلم. ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من وصله; لزيادة النية, والتكبير, والسلام. وصلاة النفل قاعدا على النصف من صلاة القائم. ومضطجعا على النصف من القاعد. وإفراد النسكين أفضل من القران. وخرج عن ذلك الصور: الأولى: القصر أفضل من الإتمام بشرطه. الثانية: الضحى أفضلها ثمان, وأكثرها: اثنتا عشر. والأول أفضل, تأسيا بفعله. صلى الله عليه وسلم الثالثة: الوتر بثلاث. أفضل منه بخمس, أو سبع, أو تسع, على ما قاله في البسيط تبعا لشيخه إمام الحرمين, وهو ضعيف, والمجزوم به في شرح المهذب خلافه, وإن كان الأكثر أفضل منه, ونقله ابن الرفعة عن الروياني, وأبي الطيب. وقال ابن الأستاذ: ينبغي القطع به. الرابعة: قراءة سورة قصيرة في الصلاة أفضل من بعض سورة, وإن طال, كما قاله المتولي; لأنه المعهود من فعله صلى الله عليه وسلم غالبا. الخامسة: الصلاة مرة في الجماعة أفضل من فعلها وحده خمسا وعشرين مرة. السادسة: صلاة الصبح أفضل من سائر الصلوات, مع أنها أقصر من غيرها. السابعة: ركعة الوتر أفضل من ركعتي الفجر, على الجديد, بل من التهجد في الليل, وإن كثرت ركعاته. ذكره في المطلب. قال: ولعل سببه انسحاب حكمها على ما تقدمها. الثامنة: تخفيف ركعتي الفجر, أفضل من تطويلهما. التاسعة: صلاة العيد, أفضل من صلاة الكسوف, مع كونها أشق, وأكثر عملا. العاشرة: الجمع بين المضمضة والاستنشاق بثلاث غرفات, والفصل بغرفتين أفضل منه بست. الحادية عشرة: التصدق بالأضحية بعد أكل لقم يتبرك بها أفضل من التصدق بجميعها. الثانية عشرة: الإحرام من الميقات أفضل منه من دويرة أهله في الأظهر. الثالثة عشرة: الحج, والوقوف راكبا أفضل منه ماشيا, تأسيا بفعله صلى الله عليه وسلم في الصورتين. تنبيه: أنكر الشيخ عز الدين كون الشاق أفضل. وقال: إن تساوى العملان من كل وجه في الشرف, والشرائط, والسنن, كان الثواب على أشقهما أكثر, كاغتسال في الصيف والشتاء, سواء في الأفعال, ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء بتحمل مشقة البرد, فليس التفاوت في نفس العملين, بل فيما لزم عنهما. وكذلك مشاق الوسائل, كقاصد المساجد, أو الحج أو العمرة من مسافة قريبة, وآخر من بعيد, فإن ثوابهما يتفاوت بتفاوت الوسيلة, ويتساويان من جهة القيام بأصل العبادة, وإن لم يتساو العملان, فلا يطلق القول بتفضيل أشقهما. بدليل أن الإيمان أفضل الأعمال, مع سهولته وخفته على اللسان, وكذلك الذكر, على ما شهدت به الأخبار, وكذلك إعطاء الزكاة مع طيب النفس, أفضل من إعطائها مع البخل, ومجاهدة النفس, وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة, وجعل الذي يقرؤه ويتتعتع فيه, وهو عليه شاق له أجران.
ومن ثم قال الأستاذ أبو إسحاق, وإمام الحرمين وأبوه: للقائم بفرض الكفاية مزية على العين; لأنه أسقط الحرج عن الأمة. وقال الشافعي: طلب العلم, أفضل من صلاة النافلة. وأنكر الشيخ عز الدين هذا الإطلاق أيضا. وقال: قد يكون القاصر أفضل كالإيمان. وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم. التسبيح عقب الصلاة على الصدقة: وقال: "خير أعمالكم الصلاة". وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله, ثم جهاد في سبيل الله, ثم حج مبرور", وهذه كلها قاصرة. ثم اختار تبعا للغزالي في الإحياء: أن أفضل الطاعات على قدر المصالح الناشئة عنها.
قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه: "وما تقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم" رواه البخاري. قال إمام الحرمين: قال الأئمة: خص الله نبيه صلى الله عليه وسلم بإيجاب أشياء لتعظيم ثوابه, فإن ثواب الفرائض يزيد على ثواب المندوبات بسبعين درجة. وتمسكوا بما رواه سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: "من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه, ومن أدى فريضة فيه, كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه" فقابل النفل فيه بالفرض في غيره, وقابل الفرض فيه بسبعين فرضا في غيره, فأشعر هذا بطريق الفحوى أن الفرض يزيد على النفل سبعين درجة ا هـ. قال ابن السبكي: وهذا أصل مطرد لا سبيل إلى نقضه بشيء من الصور,
وقد استثني فروع: أحدها: إبراء المعسر فإنه أفضل من إنظاره, وإنظاره واجب, وإبراؤه مستحب. وقد انفصل عنه التقي السبكي بأن الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمال الأخص على الأعم, لكونه تأخيرا للمطالبة, فلم يفضل ندب واجبا; وإنما فضل واجب. وهو الإنظار الذي تضمنه الإبراء, وزيادة "وهو خصوص الإبراء" واجبا آخر. وهو مجرد الإنظار. قال ابنه: أو يقال: إن الإبراء محصل لمقصود الإنظار وزيادة من غير اشتماله عليه. قال: وهذا على تقدير تسليم أن الإبراء أفضل, وغاية ما استدلوا عليه بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وهذا يحتمل أن يكون افتتاح كلام, فلا يكون دليلا على أن الإبراء أفضل, ويتطرق من هذا إلى أن الإنظار أفضل: لشدة ما ينال المنظر من ألم الصبر, مع تشويف القلب. وهذا فضل ليس في الإبراء الذي انقطع فيه اليأس. الثاني: ابتداء السلام, فإنه سنة: والرد واجب, والابتداء أفضل, لقوله صلى الله عليه وسلم: "وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام". وحكى القاضي حسين في تعليقه وجهين: في أن الابتداء أفضل أو الجواب. ونوزع في ذلك بأنه ليس في الحديث: أن الابتداء أفضل من الجواب, بل إن المبتدئ خير من المجيب. وذلك لأن المبتدئ فعل حسنة وتسبب إلى فعل حسنة. وهي الجواب مع ما دل عليه الابتداء من حسن الطوية, وترك الهجر والجفاء, الذي كرهه الشارع. الثالث: قال ابن عبد السلام: صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى الخمس الواجب فعلها على من ترك واحدة منها, ونسي عينها. قلت: لم أر من تعقبه, وهو أولى بالتعقب من الأولين. وما ذكره من أن صلاة نافلة واحدة أفضل من إحدى الخمس المذكورة, فيه نظر. والذي يظهر: أنها إن لم تزد عليها في الثواب لا تنقص عنها. الرابع: الأذان سنة وهو على ما رجحه الإمام النووي: أفضل من الإمامة, وهي فرض كفاية, أو عين. وقد سئل عن ذلك السبكي في الحلبيات, فأجاب بوجوه: منها: أنه لا يلزم من كون الجماعة فرضا كون الإمامة فرضا. لأن الجماعة: تتحقق بنية المأموم الائتمام, دون نية الإمام. ولو نوى الإمام فنيته محصلة لجزء الجماعة. والجزء هنا: ليس مما يتوقف عليه الكل لما بيناه, فلم يلزم وجوبه, وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم القول بأن الإمامة فرض كفاية, فلم يحصل تفضيل نفل على فرض, وإنما نية الإمام شرط في حصول الثواب له. ومنها: أن الجماعة صفة للصلاة المفروضة, والأذان عبادة مستقلة, والقاعدة المستقرة في أن الفرض أفضل من النفل في العبادتين المستقلتين أو في الصفتين. أما في عبادة, وصفة, فقد تختلف. ومنها: أن الأذان والجماعة جنسان, والقاعدة المستقرة في أن الفرض أفضل من النفل في الجنس الواحد. أما في الجنسين: فقد تختلف, فإن الصنائع والحرف فروض كفايات, ويبعد أن يقال: إن واحدة من رذائلها أفضل من تطوع الصلاة, وإن سلم أنه أفضل من جهة أن فيه خروجا من الإثم, ففي تطوع الصلاة من الفضائل ما قد يجبر ذلك, أو يزيد عليه, وجنس الفرض أفضل من جنس النفل. وقد يكون في بعض الجنس المفضول ما يربو على بعض أفراد الجنس الفاضل, كتفضيل بعض النساء على بعض الرجال. وإذا تؤمل ما جمعه الأذان من الكلمات العظيمة ومعانيها ودعوتها ظهر تفضيله وأنى يدانيه صناعة؟ قيل: إنها فرض كفاية. الخامس: الوضوء قبل الوقت سنة وهو أفضل منه في الوقت صرح به القمولي في الجواهر وإنما يجب بعد الوقت, وقلت قديما: الفرض أفضل من تطوع عابد *** حتى ولو قد جاء منه بأكثر إلا التطهر قبل وقت وابتدا *** للسلام كذاك إبرا معسر القاعدة الثانية والعشرون: "الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها". قال في شرح المهذب: هذه قاعدة مهمة صرح بها جماعة من أصحابنا وهي مفهومة من كلام الباقين. ويتخرج عليها مسائل مشهورة: منها: الصلاة في جوف الكعبة أفضل من الصلاة خارجها فإن لم يرج فيها الجماعة وكانت خارجها فالجماعة خارجها أفضل. ومنها: صلاة الفرض في المسجد أفضل منه في غيره. فلو كان مسجد لا جماعة فيه وهناك جماعة في غيره فصلاتها مع الجماعة خارجه أفضل من الانفراد في المسجد. ومنها: صلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد لأن فعلها في البيت فضيلة تتعلق بها, فإنه سبب لتمام الخشوع والإخلاص. وأبعد من الرياء وشبهه حتى أن صلاة النفل في بيته أفضل منها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. ومنها: القرب من الكعبة في الطواف مستحب والرمل مستحب, فلو منعته الزحمة من الجمع بينهما ولم يمكنه الرمل مع القرب, وأمكنه مع البعد, فالمحافظة على الرمل مع البعد أولى من المحافظة على القرب بلا رمل, لذلك. وخرج عن ذلك صور: منها: الجماعة القليلة في المسجد القريب إذا خشي التعطيل لو لم يحضر فيه. أفضل من الكثيرة في غيره. ومنها الجماعة في المسجد أفضل منها في غيره وإن كثرت, صرح به الماوردي, لكن خالفه أبو الطيب.
وعبر عنها قوم بقولهم: "الواجب لا يترك لسنة" وقوم بقولهم "ما لا بد منه لا يترك إلا لما لا بد منه" وقوم بقولهم "جواز ما لو لم يشرع لم يجز. دليل على وجوبه", وقوم بقولهم: ما كان ممنوعا إذا جاز وجب.
وفيها فروع: منها: قطع اليد في السرقة, لو لم يجب لكان حراما. ومنها: إقامة الحدود على ذوي الجرائم. ومنها: وجوب أكل الميتة للمضطر. ومنها: الختان, لو لم يجب لكان حراما لما فيه من قطع عضو وكشف العورة, والنظر إليها. ومنها: العود من قيام الثالثة إلى التشهد الأول, يجب لمتابعة الإمام لأنها واجبة, ولا يجوز للإمام والمنفرد; لأنه ترك فرض لسنة وكذا العود إلى القنوت. ومنها: التنحنح بحيث يظهر حرفان, إن كان لأجل القراءة فعذر; لأنه لواجب أو للجهر فلا; لأنه سنة. وخرج عن هذه القاعدة صور: منها: سجود السهو, وسجود التلاوة. لا يجبان, ولو لم يشرعا لم يجوزا. ومنها: النظر إلى المخطوبة, لا يجب, ولو لم يشرع, لم يجز. ومنها: الكتابة لا تجب إذا طلبها الرقيق الكسوب, وقد كانت المعاملة قبلها ممنوعة لأن السيد لا يعامل عبده. ومنها: رفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد. ومنها: قتل الحية في الصلاة: لا يجب, ولو لم يشرع لكان مبطلا للصلاة. ومنها: زيادة ركوع في صلاة الكسوف: لا يجب, ولو لم يشرع لم يجز. ومن المشكل هنا قول المنهاج: ولا يجوز زيادة ركوع ثالث, لتمادي الكسوف, ولا نقصه للانجلاء, في الأصح فإنه يشعر بوجوبه, وهو مخالف لما في شرح المهذب: من أنه لو صلاها ركعتين كسنة الظهر صحت, وكان تاركا للأفضل. وقد جمع بينهما الشيخ جلال الدين المحلي, بأن ذاك حيث نوى في الإحرام أداءها على تلك الكيفية, فلا يجوز له التغيير. تنبيه: استنبطت من هذه القاعدة دليلا لما أفتيت به, من أن الصلاة في صف شرع فيه قبل إتمام صف أمامه, لا يحصل فضيلة الجماعة لأمرهم بالتخطي, إذا كان أمامه فرجة لأنهم مقصرون بتركها. وأصل التخطي مكروه أو حرام, كما اختاره النووي. فلولا أنه واجب لإتمام الصف لم يجز, وليس هو واجبا لصحة الصلاة, فتعين أن يكون لحصول الفضيلة.
منها: لا يجب على الزاني التعزير بالملامسة والمفاخذة فإن أعظم الأمرين وهو الحد قد وجب. ومنها: زنا المحصن. لم يوجب أهون الأمرين وهو الجلد بعموم كونه زنا خلافا لابن المنذر. ومنها: خروج المني, لا يوجب الوضوء على الصحيح بعموم كونه خارجا, فإنه قد أوجب الغسل, الذي هو أعظم الأمرين. ونقضت هذه القاعدة بصور: منها: الحيض والنفاس والولادة. فإنها توجب الغسل, مع إيجابها الوضوء أيضا. ومنها: من اشترى فاسدا ووطئ: لزمه المهر وأرش البكارة ولا يندرج في المهر. ومنها: لو شهدوا على محصن بالزنا فرجم, ثم رجعوا: اقتص منهم, ويحدون للقذف أولا. ومنها: من قاتل من أهل الكمال أكثر من غيره يرضخ له مع السهم, ذكره الرافعي عن البغوي وغيره.
ولهذا لا يصح نذر الواجب. ولو قال: طلقتك بألف على أن لي الرجعة. سقط قوله "بألف" ويقع رجعيا; لأن المال ثبت بالشرط, والرجعة بالشرع; فكان أقوى, ونحوه: تدبير المستولدة, لا يصح; لأن عتقها بالموت ثابت بالشرع, فلا يحتاج معه إلى التدبير. ولو اشترى قريبه ونوى عتقه عن الكفارة, لا يقع عنها; لأن عتقه بالقرابة حكم قهري والعتق عن الكفارة يتعلق بإيقاعه واختياره. ومن لم يحج إذا أحرم بتطوع أو نذر. وقع عن حجة الإسلام; لأنه يتعلق بالشرع, ووقوعه عن التطوع والنذر, متعلق بإيقاعه عنهما, والأول, أقوى. ولو نكح أمة مورثة ثم قال: إذا مات سيدك فأنت طالق. فمات السيد والزوج يرثه فالأصح أنه لا يقع الطلاق; لأنه اجتمع المقتضي للانفساخ, ووقوع الطلاق في حالة واحدة. والجمع بينهما ممتنع فقدم أقواهما, والانفساخ أقوى; لأنه حكم ثبت بالقهر شرعا, ووقوع الطلاق حكم تعلق باختياره, والأول أقوى. ولو شرط مقتضى العقد; لم يضره ولم ينفعه. ومقتضى العقد مستفاد منه بجعل الشارع لا من الشرط. تنبيه: قال ابن السبكي: هذه الفروع تدل لأنه إذا اجتمع خيار المجلس, وخيار الشرط: يكون ابتداء خيار الشرط من التفرق, وهو وجه. لأن ما قبله ثابت بالشرع, فلا يحتاج إلى الشرط. قال: وقد يقال لا معارضة بينهما, عند من يجوز اجتماع علتين.
ومن ثم حرم اتخاذ آلات الملاهي وأواني النقدين والكلب لمن لايصيد والخنزير والفواسق والخمر والحرير والحلي للرجل. ونقضت هذه القاعدة بمسألة الباب في الصلح فإن الأصح أن له فتحه إذا سمره. وأجيب عنها: بأن أهل الدرب يمنعونه من الاستعمال فإن ماتوا فورثتهم. وأما متخذ الإناء ونحوه فليس عنده من يمنعه فربما جره اتخاذه إلى استعماله.
كالربا ومهر البغي, وحلوان الكاهن والرشوة, وأجرة النائحة والزامر. ويستثنى صور: منها: الرشوة للحاكم, ليصل إلى حقه, وفك الأسير وإعطاء شيء لمن يخاف هجوه, ولو خاف الوصي أن يستولي غاصب على المال فله أن يؤدي شيئا ليخلصه وللقاضي بذل المال على التولية, ويحرم على السلطان أخذه.
تنبيه: يقرب من هذه القاعدة: قاعدة: "ما حرم فعله حرم طلبه" إلا في مسألتين: الأولى: إذا ادعى دعوة صادقة, فأنكر الغريم, فله تحليفه. الثانية: الجزية يجوز طلبها من الذمي, مع أنه يحرم عليه إعطاؤها; لأنه متمكن من إزالة الكفر بالإسلام, فإعطاؤه إياها إنما هو على استمراره على الكفر وهو حرام.
ولهذا لو رهن رهنا بدين, ثم رهنه بآخر: لم يجز في الجديد. ومن نظائره: لا يجوز الإحرام بالعمرة للعاكف بمنى, لاشتغاله بالرمي والمبيت. ومنها: لا يجوز إيراد عقدين على عين في محل واحد. واعلم أن إيراد العقد على العقد ضربان: أحدهما: أن يكون قبل لزوم الأول وإتمامه, فهو إبطال للأول إن صدر من البائع كما لو باع المبيع في زمن الخيار, أو أجره أو أعتقه فهو فسخ وإمضاء للأول إن صدر من المشتري بعد القبض. الثاني: أن يكون بعد لزومه, وهو ضربان: الأول: أن يكون مع غير العاقد الأول, فإن كان فيه إبطال الحق الأول. لغا, كما لو رهن داره ثم باعها بغير إذن المرتهن, أو آجرها مدة يحل الدين قبلها, وإن لم يكن فيه إبطال للأول صح, كما لو أجر داره ثم باعها لآخر, فإنه يصح لأن مورد البيع: العين, والإجارة المنفعة. وكذا لو زوج أمته ثم باعها. الثاني: أن يكون مع العاقد الأول, فإن اختلف المورد صح قطعا, كما لو أجر داره ثم باعها من المستأجر, صح ولا تنفسخ الإجارة في الأصح, بخلاف ما لو تزوج بأمة ثم اشتراها فإنه يصح, وينفسخ النكاح; لأن ملك اليمين أقوى من ملك النكاح, فسقط الأضعف بالأقوى, كذا عللوه. واستشكله الرافعي بأن هذا موجود في الإجارة. ولو رهنه دارا, ثم أجرها منه. جاز, ولا يبطل الرهن, جزم به الرافعي. قال: وهكذا لو أجرها, ثم رهنها منه. يجوز; لأن أحدهما ورد على محل الآخر فإن الإجارة على المنفعة, والرهن على الرقبة, وإن اتحد المورد, كما لو استأجر زوجته لإرضاع ولده, فقال العراقيون: لا يجوز; لأنه يستحق الانتفاع بها في تلك الحالة, فلا يجوز أن يعقد عليها عقدا آخر يمنع استيفاء الحق والأصح: أنه يجوز, ويكون الاستئجار من حين يترك الاستمتاع. ولو استأجر إنسانا للخدمة شهرا, لم يجز أن يستأجر تلك المدة لخياطة ثوب, أو عمل آخر. ذكره الرافعي, في النفقات. قال الزركشي: ومنه يؤخذ امتناع استئجار العكامين للحج. قال: وهذا من قاعدة "شغل المشغول لا يجوز" بخلاف شغل الفارغ. ومن ثم لا يشرع التثليث في غسلات الكلب, خلافا لما وقع في الشامل الصغير, ولا التغليظ في أيمان القسامة: ولا دية العمد, وشبهه, ولا الخطأ إذا غلظت بسبب, فلا يزداد التغليظ بسبب آخر في الأصح. وإذا أخذت الجزية باسم زكاة; وضعفت لا يضعف الجبران في الأصح; لأنا لو ضعفناه لكان ضعف الضعف. والزيادة على الضعف لا تجوز. تنبيه: تجري هذه القاعدة في العربية. ومن فروعها: الجمع يجوز جمعه مرة ثانية, بشرط أن لا يكون على صيغة منتهى الجموع. ونظيره في العربية أيضا قاعدة: المصغر لا يصغر. وقاعدة المعرف لا يعرف. ومن ثم امتنع دخول اللام المعرفة على العلم والمضاف.
من فروعها: إذا خللت الخمرة بطرح شيء فيها, لم تطهر. ونظيره: إذا ذبح الحمار ليؤخذ جلده; لم يجز. كما جزم به في الروضة. قال بعضهم: وقياسه: أنه لو دبغ لم يطهر, لكن صرح القمولي في الجواهر بخلافه. ومنها: حرمان القاتل الإرث. ومنها: ذكر الطحاوي, في مشكل الآثار: أن المكاتب إذا كانت له قدرة على الأداء فأخره ليدوم له النظر إلى سيدته, لم يجز له ذلك; لأنه منع واجبا عليه, ليبقى له ما يحرم عليه إذا أداه, ونقله عنه السبكي, في شرح المنهاج. وقال: إنه تخريج حسن, لا يبعد من جهة الفقه. وخرج عن القاعدة صور: منها: لو قتلت أم الولد سيدها عتقت قطعا; لئلا تختل قاعدة "أن أم الولد تعتق بالموت" وكذا لو قتل المدبر سيده. ولو قتل صاحب الدين المؤجل المديون: حل في الأصح. ولو قتل الموصى له الموصي: استحق الموصى به في الأصح. ولو أمسك زوجته مسيئا عشرتها, لأجل إرثها: ورثها في الأصح, أو لأجل الخلع, نفذ في الأصح. ولو شربت دواء فحاضت; لم يجب عليها قضاء الصلاة قطعا: وكذا لو نفست به, أو رمى نفسه من شاهق ليصلي قاعدا, لا يجب القضاء في الأصح. ولو طلق في مرضه, فرارا من الإرث; نفذ. ولا ترثه في الجديد; لئلا يلزم التوريث بلا سبب, ولا نسب. أو باع المال قبل الحول, فرارا من الزكاة, صح. جزما. ولم تجب الزكاة, لئلا يلزم إيجابها في مال لم يحل عليه الحول في ملكه, فتختل قاعدة الزكاة. أو شرب شيئا ليمرض قبل الفجر. فأصبح مريضا: جاز له الفطر. قاله الروياني, أو أفطر بالأكل متعديا ليجامع, فلا كفارة. ولو جبت ذكر زوجها أو هدم المستأجر الدار المستأجرة, ثبت لهما الخيار في الأصح. ولو خلل الخمر بغير طرح شيء فيها, كنقلها من الشمس إلى الظل, وعكسه: طهرت في الأصح. ولو قتلت الحرة نفسها قبل الدخول, استقر المهر في الأصح. تنبيه: إذا تأملت ما أوردناه علمت أن الصور الخارجة عن القاعدة أكثر من الداخلة فيها. بل في الحقيقة, لم يدخل فيها غير حرمان القاتل الإرث. وأما تخليل الخمر, فليست العلة في الاستعجال على الأصح, بل تنجيس الملاقي له ثم عوده عليه بالتنجيس. وأما مسألة الطحاوي, فليست من الاستعجال في شيء. وكنت أسمع شيخنا قاضي القضاة علم الدين البلقيني يذكر عن والده: أنه زاد في القاعدة لفظا لا يحتاج معه إلى الاستثناء. فقال: من استعجل شيئا قبل أوانه, ولم تكن المصلحة في ثبوته, عوقب بحرمانه. لطيفة: رأيت لهذه القاعدة مثلا في العربية, وهو: أن اسم الفاعل يجوز أن ينعت بعد استيفاء. معموله, فإن نعت قبله, امتنع عمله من أصله.
ولهذا لا يجب فيه القيام, ولا الاستقبال في السفر, ولا تجديد الاجتهاد في القبلة. ولا تكرير التيمم, ولا تبييت النية, ولا يلزم بالشروع. وقد يضيق النفل عن الفرض في صور ترجع إلى قاعدة: "ما جاز للضرورة يتقدر بقدرها". من ذلك: التيمم لا يشرع للنفل في وجه, وسجود السهو لا يشرع في النفل في قول غريب. والنيابة عن المعضوب, لا تجزئ في حج التطوع, في قول.
ولهذا لا يتصرف القاضي مع وجود الولي الخاص وأهليته. ولو أذنت للولي الخاص أن يزوجها بغير كفء ففعل. صح, أو للحاكم. لم يصح في الأصح. وللولي الخاص استيفاء القصاص, والعفو على الدية, ومجانا, وليس للإمام العفو مجانا. ولو زوج الإمام لغيبة الولي, وزوجها الولي الغائب بآخر في وقت واحد, وثبت ذلك بالبينة, قدم الولي. إن قلنا: إن تزويجه بطريق النيابة عن الغائب. وإن قلنا: إنه بطريق الولاية, فهل يبطل؟ كما لو زوج الوليان معا, أو تقدم ولاية الحاكم لقوة ولايته وعمومها كما لو قال الولي: كنت زوجتها في الغيبة, فإن نكاح الحاكم يقدم, كما صرحوا به. تردد فيه صاحب الكفاية, والأصح: أن تزويجه بالنيابة. بدليل عدم الانتقال إلى الأبعد, فعلى هذا يقدم نكاح الولي. ضابط: الولي قد يكون وليا في المال والنكاح, كالأب, والجد وقد يكون في النكاح فقط, كسائر العصبة, وكالأب فيمن طرأ سفهها, وقد يكون في المال فقط, كالوصي. فائدة: قال السبكي: مراتب الولاية أربعة: الأولى: ولاية الأب والجد, وهي شرعية. بمعنى أن الشارع فوض لهما التصرف في مال الولد لوفور شفقتهما. وذلك وصف ذاتي لهما, فلو عزلا أنفسهما, لم ينعزلا بالإجماع; لأن المقتضي للولاية: الأبوة, والجدودة, وهي موجودة مستمرة لا يقدح العزل فيها, لكن إذا امتنعا من التصرف تصرف القاضي, وهكذا ولاية النكاح لسائر العصبات. الثانية: وهي السفلى. الوكيل, تصرفه مستفاد من الإذن, مقيد بامتثال أمر الموكل فلكل منهما العزل. وحقيقته: أنه فسخ عقد الوكالة, أو قطعه. والوكالة: عقد من العقود قابل للفسخ. واختلف الأصحاب فيما إذا كانت بلفظ الإذن, هل هي عقد; فيقبل الفسخ, أو إباحة, فلا تقبله؟ لأن الإباحة لا ترتد بالرد, والمشهور: الأول. وفي الفرق بين الوكالة والإذن غموض. الثالثة: الوصية. وهي بين المرتبتين, فإنها من جهة كونها تفويضا تشبه الوكالة. ومن جهة كون الموصي لا يملك التصرف بعد موته, وإنما جوزت وصيته للحاجة, لشفقته على الأولاد, وعلمه بمن هو أشفق عليهم تشبه الولاية. وأبو حنيفة لاحظ الثاني, فلم يجوز له عزل نفسه, والشافعي لاحظ الأول, فجوز له عزل نفسه على المشهور من مذهبه. ولنا وجه كمذهب أبي حنيفة. الرابعة: ناظر الوقف يشبه الوصي من جهة كون ولايته ثابتة بالتفويض, ويشبه الأب من جهة أنه ليس لغيره تسلط على عزله, والوصي يتسلط الموصي على عزله في حياته بعد التفويض: بالرجوع عن الوصية. ومن جهة أنه يتصرف في مال الله تعالى, فالتفويض أصله أن يكون منه. ولكنه أذن فيه للواقف, فهي ولاية شرعية. ومن جهة أنه إما منوط بصفة, كالرشد ونحوه, وهي مستمرة, كالأبوة. وإما منوط بذاته, كشرط النظر لزيد; وهو مستمر, فلا يفيد العزل. كما لا يفيد في الأب, بخلاف الوكيل والوصي, فإنه يقطع ذلك العقد, أو يرفعه. قال: فلذلك أقول: إن الذي شرط له الواقف النظر معينا, أو موصوفا بصفة. إذا عزل نفسه. لا ينفذ عزله لنفسه, لكن إن امتنع من النظر, أقام الحاكم مقامه, وإن لم نجد ذلك مصرحا به في كلام الأصحاب, إلا ابن الصلاح. قال في فتاويه: لو عزل الناظر نفسه, فليس للواقف نصب غيره, فإنه لا نظر له, بل ينصب الحاكم ناظرا, وهذا يوهم أنه إذا عزل نفسه انعزل, ويمكن تأويله. قال: ويوضح ذلك أن شرط النظر من الواقف: إما تمليك, أو توكيل. فإن كان توكيلا لم يصح أن يكون توكيلا عنه; لأنه لا نظر له, فكيف يوكل؟ ولأنه لو كان وكيلا عنه لجاز له عزله, وهو لو عزله لم ينفذ. ولا عن الموقوف عليه, للأمرين, فلم يبق إلا أنه تمليك, أو توكيل عن الله تعالى, أو إثبات حق في الوقف ابتداء, فإن رقبة الموقوف تنتقل إلى الله تعالى, ولا بد لها من متصرف, واعتبر الشارع حكم الواقف في الصرف, وفي تعيين المتصرف, وهو الناظر, فعلم أن استحقاق الناظر النظر بالشرط كاستحقاق الموقوف عليه الغلة, والموقوف عليه لو أسقط حقه من الغلة, لم يسقط, فكذلك إسقاط النظر. ثم إن جعلناه تمليكا منه, حسن اشتراط القبول باللفظ, كسائر التمليكات. وإن جعلناه استخلافا عن الله تعالى لم يشترط. قال: ويحتمل أن لا يشترط أيضا على التمليك; لأنه ليس بعقد مستقل, بل وصف في الوقف, كسائر شروطه. قال: وهذا هو الأقوى. قال: بل أزيد أنه لو رد, لا يرتد, بخلاف الوقف على معين, حيث يرتد بالرد, لما قلناه: من أن النظر ليس مستقلا, بل وصف في الوقف تابع له, كسائر شروطه. إلا أنا لا نضره بإلزام النظر. بل إن شاء نظر, وإن شاء لم ينظر; فينظر الحاكم. قال: ثم هذا كله إذا كان المشروط له النظر معينا. أما إذا كان موصوفا, فينبغي أن لا يشترط القبول قطعا كالأوقاف العامة. ثم قال: فإن قيل: النظر حق من الحقوق, فيتمكن صاحبه من إسقاطه, فإن كل من ملك شيئا. له أن يخرجه عن ملكه, عينا كان أو منفعة, أو دينا, فكيف لا يتمكن الناظر من إسقاط حقه من النظر؟ فالجواب: أن ذاك فيما هو في حكم خصلة واحدة. وحق النظر في كل وقت يتجدد بحسب صفة فيه, وهو الرشد مثلا إن علقه الواقف بها, أو بحسب ذاته, إن شروطه له بعينه, فلا يصح إسقاطه, كما لو أسقط الأب أو الجد حق الولاية من مال ولده, أو التزويج, ونحوه انتهى كلام السبكي ملخصا من كتابه "تسريح الناظر في انعزال الناظر".
|